أبوسعيد
عدد الرسائل : 7 العمر : 44 الموقع : سوريا تاريخ التسجيل : 20/09/2009
| موضوع: لمَ الحجاب يا إسلام ؟ !.. السبت أبريل 03, 2010 4:49 am | |
| لمَ الحجاب يا إسلام ؟ !..
حوار بين عالم مسلم ومستشرق غربي من ثنايا علوم العلامة الكبير محمد أمين شيخو
المستشرق الغربي: أنتمْ معشرَ الشرقيين تتمسَّكونَ بأمورٍ تقليديةٍ موروثةٍ لا طائلَ تحتَها تورِثُكمْ أمراضاً وعُقَداً نفسية؛ تغدُو كَبْتاً في شبابِكم وشابَّاتِكم فتُقطِّعوا بذلكَ الصلاتِ والأواصرَ الاجتماعيةَ بالفصلِ بين الجنسين، بل تَسترونَ المفاتِنَ والجمالَ والصبا بستائرَ سوداءَ مظلمةٍ لا تتماشى مع الحضارةِ الراقية، وتقبعُ نساؤكم بالبيوت... فأين الحرية، وتوصَمونَ بالرجعيةِ والتخلُّف...لماذا التعقيدُ والفصلُ بين الجنسين! أطلِقوا لهمُ الحريةَ حتى ترتوي غرائزُهم وَيَملُّوا هذا الأمرَ ويُقضى على هذهِ الغرائزْ الجنسيةِ الجسدية؛ لينطلقَ الجنسانِ الشبابُ والبناتُ في عملِ بناءِ الوطن وقد خمدتِ العواطفُ وهدأتِ الغرائزْ وماتتْ، إذ كلَّتِ النفسُ منها وملَّتْ فخبا لظى سعيرُها وانطفأتْ: وهيَّا للبناءِ والعملِ البنَّاءِ المثمرِ المنتجِ للرخاء، هذا من ناحية إذ أعلمُ بأنك ستجيبني بأجوبةٍ حاسمةٍ قاطعة بلا منطقٍ ولا حجَّةٍ ولا حوارْ فتقولَ لي هذه فاحشة وتبترَ المناقشةَ دون فهمٍ ولا وعيٍ ولا إدراك.
العالم المسلم: أخي الباحثَ الأوربيَ أبدونِ صكِّ زواجٍ؟
المستشرق الغربي: بالله عليك يا أخي العربيَ المسلم أهذه (الورقة) التي تكتبوها.. هذه (الورقة) هي التي تجعلُ الحرامَ حلالاً فتُدخلُ ناراً حامية وتحرقُ الإنسانَ المتمتِّعَ بالجمالِ وتحرِمُهُ الجِنان؟ أليس اللهُ جميلاً ويحبُّ الجمالَ فكيف لا يمارسُ عبادُه الحبَّ والجمالَ إلاَّ بورقةٍ قد تذروها الرياح؟
العالم المسلم: أخيِ الباحثَ الغربيَ سأسيرُ بالمحاورةِ معكَ قليلاً للوصولِ إلى نتائجِ هذه الورقة، وقِيَمُ الأمورِ بنتائجِها وخواتيمِها، وفرَضاً أننا رفضنا الورقةَ طالما أنَّ الشابَ أحبَّ الجميلةَ وعَشِقَها، وهي أحبَّتْه فعَشِقَتْهُ ومارسا الحبَّ دون الورقةِ وأنجبا بنينَ وبنات، ثم وفجأةً تُوفي هذا العاشقُ الهيمان والسؤال: مَنْ للبنينِ والبنات، ومَنْ لهذه المعشوقةِ الكسيرةِ بعد أن غابَ عنها حاميها وقَطَفَ زهرةَ شبابِها ورماها بموتِهِ دونَ ضمانٍ في أحضانِ الفاقةِ والفقرِ والذلِّ والهوان، وما مصير اليتامى من الأطفال؟ حتماً سيأتي ورثةُ الشابِّ وأهلُه ويقذفونَ بهم إلى الشارعِ، إلى الهلاكِ لأنَّ أباهُمُ الغيرَ شرعيٍّ ماتْ وحلَّت بهِ وبأرملتِهِ وذرارِيه الآفاتْ. نعم سيأتي الورثةُ من أخٍ وأختٍ وأب وأمٍ وأقاربَ وسوف يأخذونَ كلَّ ما لديهم من فراشٍ ومتاع وطعام وشراب ومسكن بقوةِ القانون وسيقولون لهم: (للأهل الشرعيين الميراثُ ولكم الحَجَرُ). إذن يا أخي الباحثَ الغربيَّ عن الخيرِ والكمال، أُنظر ما فعَلَتْ ما سمَّيتَها بالورقة (أي صك الزواج). ولو كانت هذه الورقةُ التي تجعلُ من الداعرةِ زوجةً فاضلةً ومن أولادِ الفاحشةِ أبناءً شرعيينَ محترمين، هل يستطيعُ أحدٌ سلبَ ميراثِ أبيهم أو تشريدَهم في الآفاق لِيَغْدوا من أهلِ الشقاءِ وأيَّ بقاءٍ في الشقاء، بل من المجرمينَ أعداءِ المجتمعِ القاسي عليهم بنظرِهِم، لا بل بسببِ هذه الورقة؟! هل كان يُطلق على مَنْ شاركَتْه حياتَه (زانيةً عاهرة، أم زوجةً فاضلة)! ومن سيقبل بها زوجةً وبأبنائِها وبناتِها عِبئاً ثقيلاً ووصمةَ عارٍ، وأين وراثتُها وكيف ستقضي بقيةَ حياتِها أبِالبغاءِ وقد ذَبَلَ شبابُها، فما أصعب قسوةَ ومرارةَ الحياةِ التي ستواجهُها وبصحيفةِ مَنْ؟! بسبب هذه الورقة التي تفضَّلْتَ وذكرتَها تهكُّماً يا عزيزي! هذا قانونُ الإلهِ الرحيم.
هذا جانبٌ من الإجابة على القسم الثاني من استفسارك المنطقي عوداً إلى بحث الجانب الأول منه.
المستشرق الغربي: أخي الباحثَ المسلمَ لا أدري ما أقول فلقد صعقْتَني بإجابةٍ علميةٍ إنسانية ما كنت أتصوَّرُها في دينِكُم. حقّاً إن في دينِكم سموّاً إنسانياً راقياً يطوي في حناياهُ رحمةً اجتماعيةً وضماناً، بل وصوناً حصيناً للأرملةِ والأبناءِ بما يملؤُ حياتَهم بهجةً وهناءً.. من فضلك أفِضْ عليَّ من حِكَمِ دينِكَ السامي الرشيد، فلم تَطْرُقْ مسامعي مناقشاتٌ منطقيةٌ ببحوث الدينِ الإسلامي مثلَ ما به نطقْتَ، ولكن من أين جِئتم بحجابِ المرأة حجاباً تاماً لا ثغرةَ لمستمتعٍ فيه ولا مجال! أُحيطك علماً بأني منذُ بضعةِ أيامٍ كنت أتجوَّلُ في الأزقةِ السحيقةِ في القدم أبحثُ عن الآثار، آثارِ الآباءِ والأجداد، وأثناءَ تَجْوالي نهاراً هاجَمَني شبحٌ أسودُ (كالبعبع) ظهر فجأةً فقفزتُ رعباً بالهواء، لكنه مرَّ بجانبي بسلام، ثم علمتُ أنها شابَّةٌ ربما كانتْ هيفاءُ صاعقةُ الجمالِ لكن ثوبَ سَتْرِها الشرعيِّ الفضفاضِ مع حجابِها الساترِ بالتمامِ لوجْهِها أسدل على مظهَرِها منظرُ شبحٍ أسودَ مريع.. فبالله عليكم ما هذا الزيُّ الإسلاميُّ المُفْزِع؟
العالم المسلم: حقّاً أيها العالمُ العزيز إنه منظرٌ مريعٌ... ليُصدَّ شيطانَ النفسِ وهواها القاتل، أي ليصدَّ عنها السوءَ والفحشاءَ ولتلتفتَ عن الحرامِ لتبحثَ عن الحلالِ وترضى به، ونحن عن عمدٍ وتصميمٍ صمَّمْنا هذا اللباس؟
المستشرق الغربي: أنتم أحببتمُ هذا الأمرَ الشاذَّ والنشاز وإخفاءَ الجمالِ والفتنةِ والصبا؟
العالم المسلم: نعم نحنُ حينما فعلنا ذلك منذ عهدِ رسولِنا الكريمِ في المدينةِ المنورةِ كان النتاجُ الصاعقُ أنْ حَفِظْنا ميولَ الشبابِ من المراهقةِ ووجَّهناها نحوَ الخيرِ والفضيلةِ والكمال فانطلقوا بفتوحاتٍ لم تسمعِ البشريةُ لها مثيلاً، وطَبَّقتْ هذا الحجابَ أممُ الأرض وارتضَتْهُ الشعوبُ الآسيوية بمعظمِها والإفريقية كذلك بمحضِ رِضاها وقبولِها عندما تبيَّنوا سموَّه، بل وبلاد شاسعة أوربية. حقاً لقد حفظنا بهذا السترِ والحجابِ كلَّ طاقاتِ الجنس (فرُويْدْ) وحوَّلناها للخيرِ والإنتاجِ.
المستشرق الغربي: ماذا تقول! أبهذا السترِ العجيبِ سدتمْ وقُدْتُمْ بلدانَ العالَمين! أرجوك الإيضاحَ والتفصيلَ والإفصاح؟!
العالم المسلم: أيها الباحثُ عن الإصلاح أنت زرتَ بيوتَنا العربيةَ وشاهدتَ نشاطَها وَوِسْعَتَها أليس كذلك؟
المستشرق الغربي: بلى يا أخي المسلمَ العربي حقّاً لقد شدهَتني هندسةُ بنائِها فبينما نحنُ في طرقٍ قديمةٍ متعرجة لا فنَّ فيها ولا هندسةَ بناء.. دلفتُ لبيوتٍ عربيةٍ قديمةِ الطراز فأخَذَتْ مجامعَ قلبي باحاتُها الواسعةُ الأرجاءِ المتسعةُ الفِناءِ بأحواضٍ محيطةٍ بباحاتِها، مذهلةٍ بورودِها وأزهارِها، بل وأشجارِها المتنوِّعة ودواليِ العنبِ المتدلِّيةِ بالأثمارِ اليانعةِ، وقد فاحَ أريجُ الياسمينِ والنرجسِ والفلِّ والزنبقِ كالمسكِ الأزفرِ ناهيك عن بحْرَاتِها ذاتِ المياهِ الدفَّاقةِ الرقراقة، ففي كلِّ بيتٍ عربيٍ حديقةٌ غنَّاءُ ومياهٌ جاريةٌ وثمارٌ متدليةٌ يكسو لونُ الخضرةِ الجدرانَ والأبهاءَ فعجبتُ من قُبْحِ الطرقاتِ وجلالِ وجمالِ بيوتٍ فيها جناتٌ ناضرات فلماذا؟
العالم المسلم: صحيحٌ ما ذكرتَ ونحن المسلمونَ عن قصدْ وتصميمٍ جعلنا الطرقاتِ ضيقةً متعرجةً لا يكادُ النورُ يغزوها، وبالعكس جعلنا من بيوتِنا جنَّاتٍ، حقَّقنا ذلك فتحققتْ على أيدينا المعجزاتُ الباهراتُ بالفتوحات. هَبْ أن إنساناً انقطعَ في الغابات وتاهَ في الأدغال عدَّة أشهرٍ يقطِفُ الثمارَ ويعيشُ على النباتاتِ الطبيعية، ثم التقى بأنثى مهما كانت درجةُ جمالِها، أفلا يهفو إليها قلبُه ويرضى بها في هذه القفراءِ من البشر أو مع فقدانِ النساءِ بالأدغال، أفلا يرضى بها شريكةً لحياتِه بتلك الأراضي العذراء، وهل يرضى بها بديلاً! طبعاً سيجدُها هِبَةً من السماء، أو قد يظنُّها ملاكٌ هبطَ من الأفلاك.. وهكذا كان المسلمونَ في أوجِ فوزهِمْ يعيشون، فحيثما ارْتَحلْتَ أو رَحَلْتَ وفي أيِّ سوقٍ أو شارعٍ تجوَّلْتَ فلن تجدَ إلاَّ الجنسَ الخشن في كلِّ مكان، ولا وجودَ لأنثى إلاَّ كظلالٍ سوداءَ لا تُلفتُ نظراً ولا تثيرُ فتنةً والنساءُ يَقَرْنَ في بيوتٍ عربيةٍ كالجنّات، فإن أرادتِ الأنثى الخروجَ فلن تجدَ سوى طرقاتٍ وأزقَّةٍ ضيقات لا تملؤ العينَ ولا تسرُّ الناظرةَ، عندها تفضِّلُ القرارَ في دارِها الجميلة. هذا والرجلُ لا يرى خارجَ بيتِه أو في عَمَلِهِ إلاَّ الخشنَ من الرجال وكأنه في عزلتِهِ عن الجنسِ اللطيفِ كإنسانِ القفراءِ أو الأدغال، فمتى دَلَفَ دارَهُ وشاهدَ أنثاهُ التي هي زوجتُه، وهو لا يرى سواها ما عدا المحرَماتِ، فيجدُها تجاهَ الجنسِ الخشن نعمةً لا تُقدَّرُ بثمن، فهو بها قريرُ العيْن راضي الفؤاد، لأنَّه لا يرى أحسنَ ولا أجملَ منها فيغتبطُ بِنِعمتِهِ التي لا مثيلَ لها وكذا الزوجةُ، فهي بمعزلٍ في بيتِها لا ترى غيرَ زوجِها فتنعمُ به وترى أنَّها به حازتْ كافة أحلامها.
المستشرق الغربي: إني لأسمعَ أموراً غريبة ومفاهيمَ ما كنتُ لأعلَمَ بها من قبل.. فَزِد لي من هذا الجديدِ كلَّ الجدَّة، تباركتَ عُلوماً.
العالم المسلم: ليس هذا السِترُ والحجابُ الشاملُ وللوجهِ ساترُ؛ بالأمرِ الجديدِ عند المسلمينَ، بل هو منذ أولِ نشأتهمْ في المدينةِ المنوَّرةِ حيث نصرَ اللهُ رسولَهُ الكريمَ وأمرهُ هو والمسلمينَ بالحجابِ، حتى أنَّ جلاءَ اليهود من بني قَيْنُقَاعَ، أنهم استحقَروا حجابَ الأنصاريةِ المسلمةِ على وجهِها وتهكَّموا بها وأرادوا كشْفَها، فدافعَ عنها مسلمٌ فقتلوه فأجلاهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينةِ ثم من الجزيرةِ العربيةِ بأسرِها. ودامَ الحجابُ ودامَ العزُّ والنصرُ للمسلمينَ حتى أهملوه بالقرنِ العشرين فاستعلى عليهم اليهود وغَدَوْا عندها من أضعفِ الأممِ. من ذلك تدرِكْ يا أخي قيمةَ السترْ والحجاب. والحجابُ فرضٌ لكافة الدياناتِ السماويةِ فبالثلاثينات من قرننا العشرين كانت نساء النصارى واليهود مستوراتٍ محجَّباتٍ في الأزِقةِ والأسواق. أما المسلمونَ فحتى عام 1950 لم تكن هناك مسلمةٌ واحدة تكشِفُ السِترَ عن وجْهِها بكافةِ مُدُنِ الشامِ ولبنان والغوطة إطلاقاً، بل وفي كافة البلادِ الإسلاميةِ والعربية. أما في مصرَ العزيزة فقبلَها بقليل، حينما خرج شاعرُنا حافظ إبراهيم يقول: أنا لا أقولُ دعوا النساءَ سوافراً مثلَ الرجالِ يجُلنَ في الأسواق، وحتى في بريطانيا العظمى فقد كان سِترُ الوجهِ سائداً حتى أن النساءَ الأرستقراطياتِ كنَّ يحْضُرْنَ مسرح شكسبير وعلى وجوهِهِنَّ الستور ويجلسنَ في مقصوراتِ مغلقةٍ ليشاهِدْنَ روائِعِ أدبيَّاتِ شكسبير الاجتماعية.
المستشرق الغربي: حقاً سمعتُ بهذا ونسيتُهُ فلولاك لضاعَ في وادي النسيان: أتمم بورِكْتَ يا أخي.
العالم المسلم: حقاً وصدارةً أن السِترَ والحجابَ أمرُهُ خطيرْ فإن أُهملَ وتُرِك هلكَ الشبابُ والشاباتُ وامتصتْ طاقاتِهِمْ الوجهاتُ الجنسية، بل ولبُذَّرت أموالُهُم وانشغلت قلوبُهم بمفاتنِ الجمالِ وسيطرتْ (فرضيةُ فْرُوُيْد) على عقولهمْ وضاعتْ جهودُهم لإنشاءِ وبناءِ الوطنِ في وادي الجنسِ الذي وكما يقولُ العلماءُ الغربيونَ (من هبَطَ فيه فلنْ يخرُجَ منه). لقد غدتِ الوجهاتُ الجنسيةُ شُغلَهُمُ الشاغل فأهملوا كلَّ إبداعٍ واختراع وأضاعوا دنياهم وآخرتَهُمْ وهم بالجنسِ غارقون، وبه وبفنونِهِ من غناءٍ وطربٍ وموسيقى ولُعَبٍ وعطورٍ فاخرةٍ غاليةٍ وتفنُّنٍ في اللباسْ، وضاعَ المجهودُ الحربي لحمايةِ الوطنِ باستغراقهم بالفتن، بإغداقِ ذلك على الطُرُقِ الحرامِ والانصرافِ عن كلِّ حلال. أما لو نظَّمنا أمورَ السِتر والحجاب كما نظّمها الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم لانصرفتْ وجهاتُ الرجالِ والنساء لواجباتهمْ ولبنُوا بناءً شامخاً شاهقاً علِيّاً كما بنى آباؤهُمُ الكرام، صحابةُ الرسلِ العظام. فللرجالِ مجالٌ وللنساءِ مجال، وتحقيقُ شهوةِ الجنس تُرتَوى بالزواجِ ويلزمُ الجنسانِ بناءَ وطنٍ صالحٍ مصلحٍ للبشرية، كلٌّ في مجاله الطبيعي الذي خُلق له. فبتطبيقِ مثل هذا القانونِ فتحنا الكرةَ الأرضيةَ وكنا خيرَ أمةٍ أُخرجت للناسِ، نأمرُ بالمعروفِ وننهى عن المنكرِ نصبح أمةً ضحكت من جهلها الأمم: فلا لِدُنْيا سَعَيْنا، وبعيدٌ ذاكَ الوقتَ الذي يمكننا فيه أن ننافسَ الدولَ العظمى بها، ولا لآخرةٍ عَمِلنا والتي بإيمانِنا بها سُدْنا العوالمَ وقُدْنا الأمَمَ للنورِ والسعادِة دُنيا وآخرة.
والآن يا أخي الباحث الحرَّ الأوربي أَعِرْني سمعَكَ أُجِبْكَ على استفسارك الأول، إذ قلتَ أنَّهُ باختلاطِ الجنْسيْنِ وإخراجِ الشَهواتِ تخمدُ العواطفُ وتَهْدَأُ الغرائزُ وتموت أقول: إنَّ ما يقرِّرُهُ الواقِعُ أشدَّ التقرير.. أولاً: إن الغريزة الجنسيةَ مَرْكونَةٌ في كلِّ كائنٍ حَيّ وإنَّها عرضة للإثارة عند معايَنَةِ الجمالِ والاطِّلاعِ على فِتْنَةِ الجسد، ذلك أنه طالما أنَّ الإنسانَ يأكل ويشربُ ويتغذى وتَنْشَأُ فيهِ مادَّةُ الحياةِ التي مِنْها خُلِقَ فهي فيه جاريَةٌ ويُمكنُ دوماً إخْراجها باستثارةِ الفِتَنِ والجمال.
ثانياً: إنَّ الأخلاقَ إذا نمتْ وتكاملتْ لا تستطيعُ تدميرَ القُوى الغريزيَّةِ الجنسية، ولكنْ بإمكانِها توجيهَها نحوَ الخير، كذلكَ الأخلاقُ الراهنة الكاملةُ لا تقوى على تبديلِ القوانينِ النفسيةِ الراهنة وهذه الملاحظاتُ ستتوضَّح لدى الانْسِيابِ بموضوعِنا الحجاب والسُفُور.
المستشرق الغربي: أخي العالمَ المسلم لقد بيَّنت لي تبياناً لا يقبل الجدل على أنَّ وريْقةَ (صك الزواج) أمر هامٌّ وأساسيٌّ في بناءِ مجتمعٍ راقٍ وفاضل ومتقدِّم وكذا الحجابْ، فهل تشرحُ لي شيئاً عن قيمةِ الزواجِ وأهميَّتهِ ليتوضَّحَ الأمرُ ككلّ؟
العالم المسلم: يا أخي الباحثَ الأوربي الحر بالتفكير: الزواج: هو واضع القواعد الاجتماعية الأولى لأنه مؤسس الأسرةِ وهي كما نعلمُ الحلقةُ الأولى من حلقاتِ المجتمعِ الكبير، وهو أيضاً وسيلة لإنشاءِ حياةٍ جميلة يغمرُها العطفُ والود، وإنَّ نشوءَ البنينِ والبنات في الوسطِ العائلي يسقيهمُ العواطفَ الرقيقة منذ أيامِهِمُ الأولى وينمِّي فيهمُ المشاعرَ الودِّيةَ التي تُعدُّهم لحياةٍ مقبلة تشيع فيها الرحمةُ والرأفة. ولولا الزواجُ لانقرضَ النوعُ الإنساني منذ أمدٍ بعيد، فاتِّصالُ الحياةِ واستمرارُها على هذه الأرضِ يقضي إذاً ازدهارَ الزواجِ وبقاءَه.
المستشرق الغربي: إذن فما مفعول الزنى وأثرُهُ الاجتماعيُّ والفردي؟
العالم المسلم: الزنى يعمل عملاً عكسياً للغاية، فإنه باعثَ الفسادِ في المجتمعِ ومُشيع الفوضى ومبيدُ النسل. وإن الشاب يومَ يندفعَ إلى الفاحشةِ إنما يمسِكُ مِعْوَلاً بكلتا يديْهِ ويقوِّضُ به دعائمَ الأمة.
المستشرق الغربي: هل لديك ثمَّةَ أمثلةٍ تُقْنعُني حقّاً؟
العالم المسلم: هَبْ أنه اتَّصلَ عن هذا الطريقِ المنحرفِ بفتاةٍ تصيدَها، إنه سيقضي معها زمناً ولكنهُ سيملُّها عندما يرى مسحةَ جمالِها تذوي بين يدي السنينَ ويهجرُهُا إلى غيرها ويترُكُها على أبوابِ الهرمِ عُرضةً للشقاءِ والفاقة، وهي إذا استطاعتْ أن تجدَ عملاً تسدُّ به رمَقها، ماذا سيكونُ مصيرُها إذا أمستْ عاجزةً عن العمل؟ ما أشدَّ قسوةَ تلكَ الحياةِ وما أكثرِ آلامَها في حِرمانٍ من الزوجِ والأولاد.
المستشرق الغربي: هذا بالنسبةِ للفتاةِ فما الأمرُ مع الشبابِ الذي تعوَّد طريقَ الزنى؟
العالم المسلم: إذا شئنا أن نعقِّبَ الشابَ الأعزبَ في مستقبلهِ بعد أن تعوَّد الزنى فإننا نجدُ أحدَ حاليْنِ:
أولاً هَجْرُ الحياةِ الزوجية بأن يبقى طَوَالَ حياتِه مستمراً في هذه الطريقِ القبيحةِ فلا ينْعَمُ بأسرةٍ ولا يُساهمُ في إحياءِ المجتمع ويكون عُرضةً للأمراضِ المنبعثةِ عن هذه الحياة، ومِعْوَلاً هدَّاماً لسعادةِ كلِّ امرأةٍ يتصلُّ بها. فإذا انقضى الشبابُ وجاء المشيب لم يجد هذا العابثُ إلى جانبهِ ولداً معيناً ولا قريباً حبيباً، عندها يدخلُ في الأحزانِ ويكتوي بنار الشقاءِ في مساءِ حياتِه المظلم.
المستشرق الغربي: ولكن يا أخي المسلم العُمُرُ طويلٌ وبابُ الزواجِ مفتوحٌ، حتى أنه ليجد فتاةً غضَّةَ الشبابِ ترضى به زوجاً ولو بلغَ من العمُرِ الخمسينَ.
العالم المسلم: إذاً تزوجَ فاتنةً يوم تبدأُ نضارتُه بالانحدارِ نحوَ الذُبولِ، إنه بعد عهدٍ طويلٍ قضاهُ في أحضانِ الغانياتِ لا غُرُوَّ إذا عزمَ الزواجَ أنه سينتقي حسناءَ ولكنَّ هذه الغادةَ التي اختارَها في مقتبلِ عُمُرِها لن تكونَ سعيدةً إلى جانِبهِ وهو قد سلخَ من العُمُرِ شوطاً كبيراً.
المستشرق الغربي: إذاً وضِّح لي هذا الأمر أكثر من فضلك؟
العالم المسلم: إن زوجاً في الصبا والجمالِ لن تُعجِبُها الحياةُ مع زوجٍ في مساءِ الشبابِ وسوفَ تمدُّ عينها إلى رجالٍ هم أوفرُ صحةً وشباباً فإذا هيَ بينَ عشِيةٍ وضحاها تسيرُ إلى الزنى وتجتذبُها الهاويةُ وستُنجبُ لزوجِها الشرعيِّ أولاداً غيرَ شرعيين، فإذا ماتَ الأبُ قاسموا إخوتَهُم من أمِّهم ميراثَهُمْ وشاعَ الفسادُ في هذا البيتِ البائسِ المتصدِّع.
المستشرق الغربي: ولكن ما قولُكَ إن كانتِ الزوجةُ فاضلةً ورضيتْ بزوجها واكتفتْ بالحلالِ البسيطِ عنِ الحرام؟
العالم المسلم: إن كبحتْ تلكَ الزوجُ الشابةُ جماحَ شهوَتِها وصبّرتْ نفسَها ولم تسلكْ طريقَ العُهْر فإنها تظلُّ أمانيها في الكبتِ ونفسُها في الحزنِ وناهيكَ عنِ الدمارِ الذي سيصيبُ أطفالَ تلكَ الأسرةِ، إنهم يرثونَ عن الصلةِ العاطفيةَ الواهيةِ بين الأبِ والأمِ وهنَ التكوينِ كما سأفصِّلُ بعد قليل. وهكذا فلن تصفوَ للزاني والزانيةِ حياةٌ ولو دخلاَ في المستقبل في حياةِ زوجيةٍ شرعية، لذلك فستشيعُ في حياتِهِما السآمةُ والمللُ وتغمُرُهُما الأحزانُ وتكوي قلوباً أفسدتْها الرذيلةُ ولوَّثتها الجريمة.
هذا هو مصيرُ الزنى، فهو مسبِّبُ البؤسِ لدى الجنسينِ في مستقبلِ الحياة وهو مُضْعِفُ النَسْلِ أو مبيدُهُ وماحِقُ الفضائلِ من آفاقِ الحياةِ وماحي السعادةِ من صفَحَاتِها، إنّ العدوانَ على الأعراضِ يرافِقُه على الأغلبِ عدوانٌ يشملُ كلَّ الشؤونِ الاجتماعيةِ الأخرى. فكم من فرقٍ شاسعٍ بين نتائجِ الحياةِ الزوجيةِ وحياةِ العهرِ والفحش. في الأولى تترعرعُ الفضائلُ وتنمو المشاعرُ الرقيقةَ وينشأُ الجوُّ المشبعُ بالتوادُدِ والتعاطفِ وفي الثانية تسيطرُ الغرائزُ ويتدنى الإنسانُ إلى مستوى الحيوانِ تُغيِّبُ الغرائزُ العواطفَ الإنسانيةَ العليا، ومستقبلٌ قاتمٌ مقفرٌ من عطفِ الأقرباءِ وعونِ الذرَّية.
المستشرق الغربي: لقد تبيَّنْتُ أموراً ما كنت أدركها طَوالَ عُمُري لوْ لمْ تشرَحْ لي حكمتَها بما يتعلَّقُ بالحجاب والزواج وطريق الفاحشة وتأثيرها الساطعِ بالواقعِ الاجتماعي والفردي، فماذا عن السفورِ يا أخي؟
العالم المسلم: إن في السفورِ تدهورَ المجتمعِ نحوَ الرذيلةِ وفيه التفككَ لروابطِ الحياةِ العائليةِ وهو مسبِّبُ الضعفِ في تكوينِ النسلِ وزارعُ بذورِ الجفاءِ والخصام والقسوةِ في البيتِ وناشئتِه.. إن السفورَ يبدِّد الرضا من نفوسِ الناسِ ويبعثُ سخَطَهم، وفي ظلالِ السخطِ لا ينمو إلاَّ البؤسُ الإنسانيُّ والشقاءُ الاجتماعي.
المستشرق الغربي: يا لهفي على الشرحِ والإيضاح؟
العالم المسلم: إليك يا أخي الشرحَ والإيضاح: فلنبحثْ أولاً في آثارِ السفورِ في نفسيةِ الشابِّ الأعزبِ والفتاةِ العزباء:
مهما قيلَ في تأييدِ السفورِ من زُخْرُفِ القول فإن الواقعَ مكذِّبُهْ، يقولون إن الأخلاقَ إذا تكاملتْ وغدت متينةً لدى الجنسينِ فإن السفورَ عندئذ لا يسببُ التدهورَ والانحلالَ، أقول: إن الأخلاقَ إذا نمتْ وتكاملتْ لا تستطيعُ تدمير القوى الجنسيةِ، فالشابُّ الظامئُ حين تلوحُ له وجوهٌ صبيحةٌ وتتحدّثُ إليه نفوسٌ ناعمةٌ بأصوات شجيةٍ لا يمكنُهُ إلا أن يصبُوَ إلى الحسانِ ويشوقَهُ الجمالُ الفتّانُ، وهذه هي الخطوةُ الأولى نحوَ الزنى، وقلِ الأمرَ نفسَه عن الفتاةِ الظامئةِ، إنها ستهفو بنفسِها نحوَ رفيقِها الشابِّ، وإذا لم نشأِ الآن أن نأخذَ بعينِ الاعتبارِ ما يقدِّمُهُ الواقعُ من نماذجَ فاحشةٍ لنتائجِ هذه الاتصالاتِ الاجتماعية الأولى فحسْبنا أن نقول: إن هذه الصلاتِ تبعثُ القلقَ في النفوسِ وتوقظُ الأرقَ، وأنّى للناشئةِ أن تستمرَّ في بناءِ المستقبلِ والإخلاصِ للعملِ والدراسةِ والوظيفةِ بعد أن دبَّ في المشاعرِ طيفُ الحياةِ الجنسيةِ ونُصبتِ الحواجزُ وطُرِقَ بابُ الغريزةِ ودعاها الداعي إلى أمرٍ نُكُرْ.
إن الغريزةَ عمياءَ لا تفرِّق بين خيرٍ وشرٍّ ولئنْ قويَ عليها الفكرُ بعد أن أيقظَتْها رؤيةُ الحسانِ وأوثَقَها في العقالِ فذلك هو الكبتُ وهو شرٌّ وأدهى، قوتانِ تتصارعانِ في ساحةِ النفس، قوةُ الغريزةِ الثائرةِ الجامحةِ وقوةُ الفكرِ المميزةِ الواعية. فإنْ غلبتْ الواعيةُ فقد دَخَلَتِ النفسُ في عذابِ الكبتِ وظلّتِ الثانيةُ في السَخَطِ حتى تجدَ طعاماً وإنْ غلبتِ الأخرى فتلكَ الهاوية.
إن مجتمعاً يَذيعُ فيه السفورُ لا تعرفُ الطمأنينةُ سبيلاً إلى أفئدةِ شبابِهِ، إذ عواملُ الإثارةِ نشيطةٌ والانفعالُ الجنسيُّ هائجٌ، ويُرى في هذه الأوساطِ حيثُ يشيعُ السفورُ والعزوبةُ أنَّ نوعَ المزاحِ قد أصبحَ غريزياً للغاية وأنَّ الأحاديثَ التي تُستحبُّ للترفيهِ عن النفسِ إنما هي أحاديثٌ متصلةٌ بمعالمِ الاتصالِ الجنسيِّ أو ما يدورُ حولَه كلُّ ذلكَ سعياً وراءَ إرواءِ الظمأِ الغريزيِّ الذي ألهبتهُ فاجعةُ السفور!
وهل يستطيعُ أحدٌ أن يعتقدَ أنَّ اليدَ الإلهيةَ التي صاغتْ هذا الكونَ الرحيبَ المكتظَّ بأعاجيبِ الخلْقِ وعظمةِ التكوينِ، هل يُعتقدُ أنَّها هي صاغتْ هذه النفوسَ على هذهِ الحالةِ من الفسادِ الذريعِ والتدنيِّ الشديد؟ لا! إنَّها صاغتها طاهرةً كريمةً ولكنَّ السبُلَ التي سارتْ فيها هذه النفوسُ أَفْسَدَتْهَا، إنَّ السفورَ يعرِّضُ الجنسينِ لفتنةِ النظرِ والنظراتِ تسوقُ إلى الحديثِ وتزرعُ فيه تعابيرَ التودُّدِ والغزلِ وما بعدَ ذلكَ إلاَّ ظمأٌ محرومٌ يقودُ إلى السُقيَا من أحواضِ الدناءةِ والعُهْر.
وقد آنَ لنا أن نرجعَ إلى طبقةِ المتزوجين لنبحثَ عن آثارِ السفورِ فيها:
إن العُرى التي تربطُ بين قلوبِ الرجالِ وأزواجِهمْ تأخذُ في الانحلالِ شيئاً فشيئاً في المجتمعِ السافرةِ نساؤُه. إنَّ المتزوجَ وإنْ كانَ في شبعٍ جنسيٍّ سوفَ تتطلَّعُ نفسُهُ حينَ يرى نساءً أوفرُ جمالاً من زوجتِهِ وأعذبُ حديثاً وأكثرُ رشاقةً، وإنْ قَوِيَتْ أخلاقُه على صيانتِهِ من الانحرافِ فإنها لن تقوَ على منعِهِ من التمنِّي والتحسُّرِ، إنه سيتمنَّى زوجةً كالتي تطلَّعَ إليها رشاقةً وجمالاً، ويزيدُ التمنِّي مع الأيامِ مع مزيدِ الإطِّلاعِ على السافراتِ الحسان، هنالك تنقلبُ تلكَ الأماني حسراتٍ في نفسِهِ ويغدو ساخطاً على حظِهِ البائسِ، وقلِ الأمرَ نفسَهُ على زوجتِهِ التي شاهدَهَا الرجالُ وشاهدتِ الرجالَ، لا بدّ أن تلقى رجلاً تتوافرُ فيه عناصرٌ تميِّزُهُ وترفعُهُ فوق زوجِها بمراتبِ التفوقِ من وجوهٍ كثيرةٍ، إنها ستخطو الخطوةَ الأولى والثانية وأقصد التمنِّيَ والتحسُّر... لنركِّز الآن انتباهَنَا على تلك الأسرةِ سوف نرى ما يلي:
1 فتوراً في المحبَّة بينهما، إذ قلبُ كلٍّ منهما متعلقٌ بغيرِ رفيقِهِ ولا يرى فيه إلاَّ صاحباً قضى الحظُّ العاثرُ برفقَتِهِ مدى الحياة، إنَّ في هذه الدنيا أزواجٌ كثيرون همْ خيرٌ من هذا الزوجِ وفيها نساءٌ كثيراتٌ هنّ أوفرُ حسناً من هذه المرأةِ، هذه هي الفكرةُ الثابتةُ التي سترتكز في ذهنِ كلٍّ من الزوجينِ في مجتمعِ السفور، وهي تُضعِفُ ولا شكَّ من الروابطِ الجنسيةِ والزوجية.
المستشرق الغربي: أرجوكَ أنْ تشرحَ لي ماهيةَ هذا الضعفِ في الروابطِ الجنسيةِ الزوجية، وهلْ لذلك تأثيرٌ على النسل؟!
العالم المسلم:
2 دلّت المباحثُ العلميةُ على أن هذا الفتورَ بينَ الرجلِ وزوجِهِ ينعكسُ على الاتصالِ الجنسيِّ أسوأَ الانعكاسِ لأنَّ فقدانَ المحبةِ المتأججةِ بين الزوجينِ يقضي إلى ضعفِ النسلِ ووهنٍ في تكوينهِ الفيزيولوجي. وأنَّ المحبةَ إذا نشطتْ وكانت مكينةً تُنتجُ خيراً كثيراً ساعةَ الاتصالِ الغريزي، إذ لها أشدُّ التأثيرِ في إنجابِ أولادٍ أقوياءَ الأبدانِ، سليمي التكوينِ والعكسُ صحيحٌ جداً. وإنَّ هذه العللِ التي تنتابُ الأطفالَ كثيراً ما يرِثُهَا هؤلاءِ بسببِ الجفاءِ المتركِّزِ في نفوسِ الأبوينِ عند اللقاءِ، والمقاربةِ الزوجية.
3 زِدْ على ذلكَ أن أفولَ المحبةِ من سماءِ البيتِ يجعلُ الأولادَ يترعرعونَ في وسطٍ مقفرٍ من الودِّ وهذا ما ينعكسُ في نفوسِهِمُ الغضةَ ويغرسُ في قلوبهمْ وهم على عتبةِ الحياةِ بذورَ القسوةِ ويطبَعُها بطابَعِ الخصام.
4 وأخيراً إنَّ السفورَ يبدِّدُ الرضى من نفوسِ الناسِ كما قلتُ ويبعثُ في قلوبِهِم السُخطَ على الحظِّ والحياة وقد قيل: أنَّ السعادةَ لا تتحقَّقُ في المجتمعِ إلاَّ إذا توفَّرَ عنصرُ الرضى لدى أفرادِه، إذ النادبُ لحظِهِ شقيٌّ ولو كان يتقلّبُ في أحضانِ النعيمِ، فلا شيءَ يبعثُ الهناءَ في الحياةِ كالرضا.
والآن لنستمعْ إلى قوله تعالى وهو أعلم بقوانينِ العباد وسبُلِ خيرهِم وهو المحبُّ الرحيمُ بهم يأمرُ بالحجابِ ويبيِّنُ حكمتَهُ لنساءِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم اللواتي هنَّ قدوةً لنساءِ المؤمنينَ ليتبعوهنَّ، قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..} سورة الأحزاب (53).
المستشرق الغربي: ماذا تعني الآية بالحجابِ، أيْ ما هي ماهيةُ الحجاب، وهل يتضمَّنُ الحجابُ كشف الوجهِ فقط أم سِتْر الجسمِ فقط أم الشمُول؟
العالم المسلم: الحجاب باللغة: هو حجب الرؤية كليّاً وانعدام المشاهدة.
توضِّحُ هذه الآيةُ الإيضاحَ البيّن ذلكَ الحجابَ، فلا ترتضيهِ إلاَّ ساتراً لمحاسنِ المرأة كلِّها مما يَشوُقُ القلبَ ويُلوِّثُهُ بجرثومِ الشهوات، ويبقى من المرأةِ حديثُها الذي هو من وراءِ حجاب، قال تعالى:
{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ..} سورة الأحزاب (32).
فالحديثُ رغمَ الحجابِ الساترِ والحائلِ دون رؤيةِ الوجهِ الحسنِ يجبُ أن يكونَ جدِّياً للغاية حازماً لا يتطرَّقُ إليهِ وهنٌ في اللهجةِ ولا نعومةٌ في الصوتِ والعبارةِ ولا تطرُّفٌ في الموضوعِ وقد أمرَ تعالى النساءَ أن يظللْنَ في بيوتهنَّ لأنَّ فيها عملُهُنَّ الثمينُ المنتجُ ألا وهو تربيةُ البنينِ والبناتِ وإعدادُ جيلٍ للمستقبلِ صحيحٍ في الجسمِ والعقلِ، ولكن إذا اضطررنَ إلى الخروجِ فقد وجبَ عليهنَّ صيانةً للأخلاقِ العامةِ ولسلامةِ قلوبِ الناسِ جميعاً أن يتأدَّبنَ بالشرعِ الآتي، قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى..}.
وأحبُّ أخيراً أن أتلو آية كريمةً من سورةِ النورِ تصفُ لنا ذلكَ النظامَ الاجتماعيَ الكاملَ الذي رسمَهُ تعالى للحياةِ المثلى على الأرض. قال تعالى في سورة النور (30-31): {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ونرى من خلال هذه الآية آدابَ السيرِ التي يجب أن تتحلَّى بها المرأةُ في الطريقِ. فالخمارُ: إنما هو الغطاءُ الساترُ مأخوذة من خَمَرَ، بمعنى: غطّى وسترَ، ومنها الخَمْرُ والخمرةُ لأنها تغطِّي الوعيَ وتَسُدُ الفكرَ وتستُرُه، وعلى ذلكَ فالآيةُ تأمرُ بإسدالِ الخمارِ المغطِّي للوجهِ على الجيبِ وهو العنقُ البادي من فتحةِ الثوبِ وما يتَّصلُ بهِ من أعالي الصدرِ، كل ذلكَ مبالغةً في سَتْرِ الجمالِ الذي سمّاهُ تعالى زينةً، إذ الجمالُ هو الزينةُ الطبيعيةُ للنساء، والصبا كذلك.
وفي ختام هذه الآيةُ سُنةٌ أخرى من سُنَنِ السيرِ في الطريقِ يجبُ على المرأةِ أن تعملَ بها، ذلكَ أنَّ اللهَ تعالى ينهى أنْ تَضْرِبَ المرأةُ برجْلِها لئلاَّ يهتزَّ جسْمُها وتُظْهِرُ علائمْ فُتوَّتِها وصِبَاها من وراءِ الثوبِ الفضفاضِ الساترِ والخمارِ المسدَلِ الحاجبِ، إذ هذا الاهتزازُ في الجسمِ مما يُثيرُ الشوقَ الغريزيَّ لدى الرجالِ ويحرِّكُ داعي الشهوةِ الراقدة. وهنالك الدليلُ القطعيُّ على أنَّ جسمَ المرأة كلُّه فتنةٌ والمرأةُ كلُّها عورةٌ كما قال الرسول العربي صلى الله عليه وسلم «الفتنةُ لا نرضى بها» و «الفتنةُ نائمةٌ لعنَ اللهُ موقظُها»، أيضاً قال تعالى في سورة الأحزاب:
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً}.
بهذا يتوضَّحُ الدليلُ القاطعُ أنَّ وجهَ المرأةِ عورةٌ لا يرضى الشرعُ بسفورِه، إذ لو سمحتِ الآيةُ هذه بكشفِ الوجهِ (لعُرِفْنَ) ولنقضنا هذه الآيةَ الصريحة. هذه الآيةُ شملتْ كافَّةَ نساءِ المؤمنينَ من القِمَّةِ منْ نساءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الطاهراتِ إلى كافةِ المؤمنات.
فلو نظِّم المجتمعُ في هذه الناحيةِ تنظيماً يتفقُ والشرعَ الإلهي لكان مجتمعاً تقدُّمياً حقّاً.
المستشرق الغربي: يا أخي الباحثَ المسلمَ إني لأرى أنَّ مجتمعاتِ عصرنِا قد أوغلتْ في قفارٍ وصحارٍ لا انتهاءَ لها بُعداً وغربةً عن شواطئِ بحارِ الفضيلةِ، بلْ لقد تَيَتَّمَتِ الفضيلةُ وراجَتْ سوقُ الرذيلةِ بُعْداً سحيقاً عن الفضيلةِ متراميةً في أحضانِ الأهواءِ وتقلُّباتها، لَذَّاتٌ تتحقَّقُ ولكن تعقُبُها آلامٌ نَفْسِيةٌ مُرهِقة، حتى أصبحَ العالَمُ يموجُ على حضارةٍ مزدانةٍ بكل ترفٍ ورفاهية ونزواتٍ ولكنْ يطوي في أعماقِهِ على بحارٍ من الآلامِ والأحزانِِ النفسيةِ وضَنْكِ الحياةِ القلبيَّةِ والنفسية، حقّاً لقد فُقِدَتِ السعادةُ، وحقيقةُ الناسِ رغمَ هذا الترفِ في شقاء. هذا وإني بغايةِ الشوقِ لأسأَلَكَ أينَ المفرُّ؟ ومتى ستعودُ السعادةُ الحقيقيةُ لقلوبِ الناس ولكني قَبْلَ ذلك أتوقُ إلى مزيدٍ من البَحْثِ لأرْوي ظَمَئي لمثالٍ يوضِّحُ لي ما به تفضَّلتَ وشرحت عن السفور. فهل لديك ثمَّةُ مثالٍ حقيقي أو واقعةٍ توضِّحُ لي حقيقةَ السفورِ والحجاب؟
العالم المسلم: إذن إليكَ يا أخي الباحثَ الحبيب بقصة (الحجابْ والمرأةِ الفرنسية)، ولكنْ قبلَ سَرْدِها أعقِّبُ قليلاً على الآيةِ التي ذكرتُها الآن وهي {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً} لأنها القانونُ والتشريعُ الرباني الذي أتى به سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام الموصلُ للسعادة... لأن هذا الربَّ رحيمْ ذو حنانْ لا يرضيهِ سوى سعادةُ عبادِهِ دنيا وآخرة... لكنَّها الشهواتُ البهيميةُ الجهنمية هي التي جعلتِ البشرَ يبتعدونَ عن هذه القوانينَ... ظانينَ أن قوانينَ شهواتِهم هي الموصلةُ لسعادتِهم... إذ لم يفكِّروا. أما من أدركَ سرَّ هذه القوانينِ الإلهيةِ والحكمةِ العظيمةِ منها والتي تكمُنُ سعادةُ البشرية بتطبيقِها فهو القريبُ المحبُّ لربِّه، وكلما ازدادَ المرءُ قرباً وحبّاً زاد فهْماً وإدراكاً للمرادِ الإلهيِّ من أحكامه. وإليك القصةَ الرائعةَ الواقعيةَ والتي جرتْ حوادثُها بعهدِ الانتداب الفرنسي على سوريا:
حُدِّدَ موعدٌ للاجتماع بين العلامة محمد أمين شيخو وبين رجل ذي مكانة اجتماعيةٍ وثقافية (دكتوراه) بزمن الكتاتيبِ ولا مدارسَ إذ ذاك، وكان الاجتماعُ يتعلَّقُ بتنصيبِ الأمير عبد المجيد حيدر ملكاً على سوريا الكبرى بعهد الانتدابِ الفرنسيِّ عليها بضوءٍ أخضرَ من الحكومةِ الفرنسية إذ ذاك.
وباليوم التالي وفي الساعةِ المحددةِ حضر العلامة محمد أمين شيخو إلى بيت ذلك الرجل وقرع الباب ففتحتْ زوجةُ الدكتورِ البابَ وطلبت منه الدخولَ (عن طريقِ ابنتها) لأنها ذاتُ جنسيةٍ فرنسية ولا تجيدُ اللغةِ العربية.
وحالما شعر العلامة أنَّ امرأةً على البابِ أدارَ ظهرَه فاضطرتْ لإعلامهِ بأن زوجَها اتَّصلَ منذ قليلٍ وأخبرَها بأنَّه سيتأخرُ عن الموعدِ عَشْرُ دقائقَ لأمرٍ هام عند الجنرال سَرايْ المندوبُ السامي الفرنسي لسوريا.
فهبط الدرجَ وانتظر في الشارعِ قربَ البيت.
حضر الدكتور واعتذرَ عن تأخُّرِه فأجابه إنسانُنا بأن التأخُّر مَدَّةُ عشرِ دقائقَ لا يُعتبرُ تأخُّراً إن حدث، بل ما بعد العشرِ دقائقَ تأخيرٌ، ثم دلفا البيتَ وجلسا في الصالون، وقبل الحديثِ الذي من أجلهِ عُقِدَ الاجتماعُ وإذ بزوجةِ الدكتور تحضرُ لتجلسَ معهما بصحبةِ ابنتها.
نظر العلامة محمد أمين شيخو إلى زوجها الذي يعلمُ بأنه لا يجالسُ النساءَ فالتفتَ الزوجُ ثم أطرقَ رأسَهُ ولم يجرؤْ على الكلام لأنه شاهدَ زوجتَهُ والغضبُ يكسو وجهَها، ابتدأتِ الحديثَ قائلةً:
بلغني عنك مسموعاتٌ عاليةٌ جداً في لبنانَ والآن شاهدتُ العكسَ تماماً (فهي والحالة هذه تذمُّه بقولها) مما اضطَّره لإجابتِها عن طريقِ ابنتِها.
فقال لابنتها: أرجو أن تُخبري أُمَّكِ بأنها (مجنونة).
وعندما أبلَغتْها ذلك النبأَ الصاعقَ ثارتْ ثائرُتها لأن حدَّة الطبعِ من الصفاتِ التي يتميَّزُ بها الفرنسيونَ عن غيرِهم ونهضتْ ثائرةً تصرخُ: أنا مجنونة؟
قال لها: طبعاً... لأنَّ من يحكمُ على رجلٍ حُكْمَيْنِ متناقضينِ تماماً دونَ معرفتهِ والاجتماعِ به، أوَ ليس هذا بمجنون؟ فهل شاهدتيني قبلَ الآن... لتَحْكُمي عليَّ هذينِ الحُكمين؟
فأجابته: بلى، لماذا لم تدخلْ الفيلْلاَ عندما دعوتك للدخول...
ألست جميلة؟ مع أن زوجي يعلمُ أني من فاتناتِ باريس، أم هلْ سمعتَ عني بأني غيرُ شريفةٍ حتى إنك لم تدخلْ؟ فهذا زوجي أمامَكَ اسأَلهْ هل لاحظَ عليَّ شيئاً من هذا القبيلِ طيلةَ حياتي معه؟
فأجابها إنساننا: أنا مسلمْ، ومن أُسسِ شريعتِنا الحَنِيفِيَّةِ أنَّ الرجالَ لهم مجالٌ والنساءَ لهن مجالٌ آخر والاختلاطُ عندنا محرّمُ.
فأجابت: أنتم المسلمون قد غالَيتُمْ كثيراً مع العلم بأن اليهودَ أقدمُ منكم في الدينْ وكذلك فإنَّ النصارى أقوى منكم، فمن أين أتيتُمْ بمسألة الحجابِ هذه؟
فأجابها: وهل المسألة بالقِدَمِ أو القوة، أم بالمنطقِ والحجَّةِ والحق؟
قالت: لا... بل بالحجَّةِ والبرهان.
قال: إذن، فاسمحي لي أن أبيِّنَ لكِ سببَ الحجابِ بين الرجلِ والمرأةِ في الإسلام:
إنني حين لا أجلسُ مع النساءِ، بل اجتمعُ بالجنسِ الخشنِ (جنس الرجالْ) طَوالَ النهار، ثم أعودُ من عملي إلى بيتي أرى زوجتي بنظري أجملَ النساءِ في العالم، فتزدادُ محبتي لها... كما تزدادُ وشائجُ الترابطِ قوَّةً بيننا، وهذا أمرٌ له شأنُهُ على نشوءِ أولادي، أي على الصعيدِ الأُسَري... وحين نختلطُ مع بعضنا أنتِ وأنا علماً بأنك أنتِ شريفةٌ... وأنا شريفٌ... فلا بدَّ أن فيك محاسنَ ومزايا رائعةً تميّزكِ عن زوجتي، هذه المحاسنُ التي لكِ لا بدَّ وأن أستهويها لكوني بَشَرْ، وعندما أعود إلى البيت أبدأُ بالمقارنةِ بصورةٍ لا شعورية بينَ ما رأيتُ واستحسنتُ من صفاتٍ كاملةٍ فيكِ أفتقدُها بزوجتي... فأندبُ حظي الأسودَ وأنسبُ الظلمَ لقسْمتي، لماذا كانتْ هذه نصيبي ولم تكنْ تلكَ ذاتُ الحسنِ والجمال أو الحديثِ ذي الجرسِ الموسيقيِّ أو الأناقةِ وخفَّةِ الروحِ والجاذبية، وهذا ما يُقلِّلُ من حبيِّ لزوجتي فتسودُ الكراهيةُ بيننا بدلَ المحبَّةِ والإلفَة... فحينما تلاطفُني زوجتي كعادتها بكلمة (يا حبيبي) أشعر وكأنَّها تقولُ لي (ورصاصْ) لأن القلبَ قد تبدَّل، «وما جعلَ اللهُ لرجلٍ منْ قلبينِ في جوفِهِ»، فالحبُّ قد تحوَّلَ والنَّفسُ تميلُ مع الأجملِ أو الأفتنِ أو الأكثرِ جاذبيةً ورقَّة، عندها يسودُ التنافرُ بدل التعاونْ، والظلمُ بدلَ العدلِ وقد تتحمَّلُ زوجتي معاملتي السيئةَ هذه مرةً أومرتين ولكنْ لا بدَّ أن ينفذَ صبرُها وتتساءلُ بنفسِها ما سرُّ هذا الانقلابِ العجيب الذي جعلهُ يُعاملني هكذا بالرغمِ من قيامي بواجباتي نحوَهُ ونحوَ أولادي وبيتي على الوجهِ الأكمل فتثورُ ثائرتُها وتقابلني بالمثلِ، وهنا الطامَّةُ الكبرى، هنالك تتوترُ العلاقةُ بيننا وتبدأُ المشاحناتُ والخصوماتُ لأتفهِ الأسبابِ لأن النفوسَ قد تغيَّرتْ... وبسببِ هذا تتحوَّلُ الحياةُ إلى جحيمٍ لا يُطاقُ فيكون الطلاقُ الوسيلةَ الوحيدةَ للخلاصِ منه، ولا يحصدُ كلانا نتائجَ الطلاقِ السيئةِ فقط وإنما تنعكسُ أيضاً على الأولادِ الذين يفقدونَ في لحظةٍ من يرعاهُمْ ويحنو عليهِمْ، ليصبحوا مع أصدقاءِ السوءِ في الشارعِ (الملاذ الذي ينهلونَ منه ويتعلَّمونَ فنونَ الرذيلةِ والإجرام)، كما يحصلُ انشقاقٌ بين أفراد عائلتي وعائلَتِها ولا يخفى ما لهذا الانحلالِ من أثرٍ سيءٍّ على بناءِ المجتمع فيصبحُ المجتمعُ من جرَّاءِ السفورِ والاختلاطِ مُهلهلاً متفكِّكاً يَسهُلُ القضاءُ عليه، فهذا كلُّه إنما حصلَ نتيجةَ اختلاطِنا ببعضنا البعضِ بالرغمِ من كونكِ أنتِ شريفةٌ وأنا شريف.
هذا بالنسبةِ للرجلِ أما بالنسبةِ للمرأةِ فإنها من خلالِ اجتماعها برجلٍ غريب قد تستحسنُ فيه صفاتٍ جيدةً مثل: الحديثِ، المعاملةِ، الهيئة، المنصبِ.. الخ.. غير متوفرة في زوجِها، ويؤدي هذا مع مرورِ الزمنِ إلى النفورِ من زوجِها وبدءِ الخصوماتِ والمشاحنات.
ثم التفت إليها العلامةُ محمد أمين شيخو وقال: إن شاهدتِ فيَّ صفاتٍ حسنةً جميلةً... ألا تحبِّينَ أن تكونَ هذهِ الصفاتِ متوفرةً في زوجِك؟
قالت: أريدُ أن يكون زوجي أحسنَ مخلوقٍ في العالم.
قال: إذن.. وبفقدانِ هذه الصفاتِ من زوجِك فإنهُ سيصغرُ في عينِكِ وتتضاءلُ قيمتُهُ في نظرِكِ وسببُ ذلك كلِّه اختلاطُك بغيرِهِ، حيث يدفعُكِ هذا الاختلاطُ لاستحسانِ بعض الصفاتِ في الغيرِ والتي يفتقدُها زوجُكِ فيكون من نتيجتِها الاشمئزازُ والنفورُ بدلَ المحبةِ والسرور وتُفتَقدُ السعادة.
فما لبثتْ بعد أن سمعتْ هذا الكلامَ المنطقيَّ الذي هو بمثابةِ تحليلٍ علميٍّ لواقعِنا العملي أنْ أقرَّتْ بذلك ونظرتْ إلى ابنَتِها وقالت لها: أما الآن فأُريدكِ أن تكوني مسلمةً، ولكنْ كهذا الرجلِ لا كأبيكِ. فطأطأَ زوجُها رأسَه خجلاً (لما تعرف عن سلوكهِ من ممارساتٍ تتناقض مع روحِ الرجلِ المسلم).
وبعد هذا الإقرار استأذن العلاَّمةُ الكبير محمد أمين شيخو بالخروجِ والذهابِ إلى بيتِهِ...
ولم تمضِ سوى أيامٌ قليلةٌ بعد هذا اللقاء... حتى جاء زوجُ هذه المرأةِ الفرنسية ليُعلمَ السيِّدَ الشريف بأن زوجته الفرنسية ترجو اللقاءَ به مرةً ثانية لما وَجَدته فيه من صدقٍ وواقعيةٍ ومنطقيةِ الحديث... ويمكن أن تكونَ لديها رغبةٌ حقيقيةٌ في دخولِ الإسلام إن اجتمعَ بها ثانيةً.
فاعتذرَ العلاَّمةُ محمد أمين شيخو قائلاً: أما اجتماعي بها في المرةِ الأولى فكان اضطرارياً كما كنتُ مضطراً للردِّ عليها فيما اتَّهمتْ به الإسلامَ من تعصُّب للحجاب وجمود.
أما الآن فأنا لا أذهبُ إليها بكلتا رجليَّ وبمحضِ إرادتي، ففي المرة الأولى رأيتها دونَ شهوةٍ ولكنْ في المرة الثانية وباختياري سوف أرغبُ وأشتهي فأنا بشرٌ يا أخي وبهذا أُهْلِكُ نفسي وهذا لا يجوز. إن كانت تريد أن تُسلِمَ فهي وشأنُها.
وبعد أقلِّ من شهرٍ عاد الدكتور وبرفقتهِ زوجتُه الفرنسية التي ارتدتْ لباساً طويلاً ساتراً لجسمها وأسدلت غطاءً على شعرها إلى بيت العلامة محمد أمين شيخو الذي فتح لهما البابَ على غيرِ موعدٍ ورحَّبَ بهما أجملَ ترحابٍ أمامَ هذا الواقع، إذ لم يسعه إلاَّ أن يأذنَ لهما بالدخولِ بهذا الزيِّ الشريف، ثم حدَّثتهُ بأنها قد رأتْ في نومِها الرسولَ محمداً صلى الله عليه وسلم بنورانيةٍ وبهاءٍ وجمال سَبَتْ عقلها وأذهلَتْها عن الوجود، فلقد عاشت في عوالمَ قدسيةٍ وغبطةٍ علوية حتى طلَّقت نفسُها دنياها وعافتْ شهواتِها فغدَتْ لا تبغي حِوَلاً عن حالِها السامي الرفيع.
وأضافت: ومنذُ تلكَ المشاهدةِ العظيمة أصبحتُ أعيشُ حياةً مِلؤُها السعادةُ والسرور حيث انقلبَ ألمي وشقائي نعيماً لا يُضاهى وما زلتُ أعيشُ هذه الحالةَ حتى الآن ولذلك قررتُ أن أُعلنَ إسلامي على يديك، وأَسلَمَتْ.
(نعم، لقدْ حدثتْ تلكَ القصةُ الواقعية في عهدِ سيادةِ فرنسا على سوريا)
ثم أضاف: بعد إسلامِكِ بقيَ عليك أن تضَعيِ غطاءً على وجهِكِ لتستمريِّ بحياتكِ القلبيةِ الراقية، إذ الفتنةُ لا نرضى بها.
فأجابت: لا أستطيع الآن أن أطبِّقَ هذا دفعةً واحدة لأنني كنتُ طيلة عُمُري معتادةً على كشفِ وجهي فهذا يصعبُ عليَّ الآن فاصبِر عليَّ برهةً قليلةً من الوقت وسوف أتمِّمُ ذلك بإذن الله وحُبِّ رسولِه.
وحالت بين لقائهما أمورٌ سياسيةٌ عصفتْ بالشام ولكنهُ اطمأنَّ لصدقِها بأنها بإذنِ الله على ما يُرام. والحمد لله رب العالمين
هذه الحقائق أجاب عنها فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو
| |
|